فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
قوله: {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}:
العامَّةُ على كسر السين خفيفةً. و{عِلْمًا} على هذه القراءةِ تمييزٌ منقولٌ من الفاعلِ؛ إذِ الأصلُ: وَسِعٍ كلَّ شيءٍ عِلْمُه. وقرأ مجاهد وقتادة بفتح السين مشددةً. وفي انتصاب {علمًا} حينئذ وجهان:
أحدهما: أنه مفعولٌ به. قال الزمخشري: وَجْهُه أنَّ وَسِع متعدٍّ إلى مفعولٍ واحد. وأمَّا {عِلْمًا} فانتصابُه على التمييز فاعلًا في المعنى. فلما ثُقِّل نُقِل إلى التعديةِ إلى مفعولَيْنِ فنصبُهما معًا على المفعولية؛ لأن المُميِّز فاعلٌ في المعنى، كما تقول في خاف زيد عمرًا: خَوَّفْت زيدًا عمرًا فتردُّ بالنقل ما كان فاعلًا مفعولًا. وقال أبو البقاء: والمعنى: أعطى كل شيء عِلْمًا فضمَّنه معنى أعطى. وما قاله الزمخشريُّ أولى.
والوجه الثاني: أنه تمييزٌ أيضًا كما هو في قراءةِ التخفيفِ. قال أبو البقاء: وفيه وجهٌ آخرُ: وهو أن يكونَ بمعنى: عَظَّم خَلْقَ كلِ شيءٍ كالأرض والسماء، وهو بمعنى بَسَط، فيكون عِلْمًا تمييزًا. وقال ابن عطية: وسَّع خَلْقَ الأشياءِ وكَثَّرها بالاختراع.
قوله: {كذلك نَقُصُّ}:
الكافُ: إمَّا نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أو حالٌ من ضمير ذلك المصدرِ المقدَّرِ. والتقديرُ: كَقَصِّنا هذا النبأ الغريبَ نَقُصُّ. و{من أنباءِ} صفةٌ لمحذوفٍ هو مفعولُ نَقُصُّ أي: نَقُصُّ نبًا من أنباءِ.
قوله: {مَّنْ أَعْرَضَ}:
يجوزُ أَنْ تكونَ {مَنْ} شرطيةً أو موصولة. والجملةُ الشرطيةُ أو الخبريةُ الشبيهةُ بها في محلِّ نصبٍ صفةً ل {ذِكْرًا}.
قوله: {خَالِدِينَ}:
حالٌ مِنْ فاعل {يَحْمِلُ}. فإنْ قيل: كيفَ وقع الجمعُ حالًا من مفردٍ؟ فالجوابُ أنه حُمِل على لفظ {مَنْ} فَأُفْرِدَ الضميرُ في قوله: {أَعْرَضَ} و{فإنَّه} و{يَحْمِلُ}، وعلى معناها فَجُمِعَ في {خالدين} و{لهم}. والضميرُ في {فيه} يعود ل {وِزْرًا}. والمرادُ في العقاب المتسَبِّبِ عن الوِزْرِ وهو الذنبُ فَأُقيم السببُ مُقامَ المُسَبَّبِ.
وقرأ داود بن رفيع {يُحَمَّلُ} مُضَعَّفًا مبنيًا للمفعول والقائمُ مقامَ فاعلِه ضميرُ {مَنْ}. و{وِزْرًا} مفعولٌ ثانٍ.
قوله: {وَسَاءَ} هذه {ساء} التي بمعنى بِئْس. وفاعلُها مستترٌ فيها يعودُ على {حِمْلًا} المنصوبِ على التمييز، لأنَّ هذا البابَ يُفَسَّر الضمير فيه بما بعدَه. والتقديرُ: وساء الحِمْل حِمْلًا. والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ تقديرُه: وساء الحِمْل حِمْلًا وِزْرُهم: ولا يجوز أن يكون الفاعلُ لبِئْس ضميرَ الوِزْرِ، لأنَّ شَرْطَ الضميرِ في هذا الباب أن يعودَ على نفس التمييز. فإن قلت: ما أنكْرتَ أن يكونَ في {ساء} ضميرُ الوِزْر؟ قلت: لا يَصِحُّ أن يكونَ في {ساء} وحكمُه حكمُ بئس ضميرُ شيءٍ بعينه غيرِ مبهمٍ. ولا جائزٌ أن تكونَ {ساء} هنى بمعنى أهمَّ وأحزنَ، فتكونَ متصرفةً كسائر الأفعال. قال الزمخشري: كفاك صادًَّا عنه أَنْ يَؤُول كلامُ الله تعالى إلى قولِك: وأحزن الوِزرُ لهم يومَ القيامة حِمْلًا. وذلك بعد أن تَخْرَجَ عن عُهْدةِ هذه اللامِ وعُهْدَةِ هذا المنصوب انتهى.
واللامُ في {لهم} متعلقةٌ بمحذوفٍ على سبيلِ البيان، كهي في {هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23]. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)} أي إلهكم الذي تجب عليكم عبادتُه بحقِّ أمره هو اللًّهُ الذي لا إله إلا هو، وهو بوصف الجلال، والذي لا يخفى عليه شيءٌ من المعلومات هو الله، وليس مِثْلَ الذي هو جماد لا يَعْلَمْ ولا يَقْدِرُ، ولا يحيا ولا يسمع ولا يبصر. ويمكنه أن يَسْحَقَ هذه الجماد ويحرقه.
{كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ}.
نعرِّفك أحوالَ الأولين والآخرين لئلا يَلْتَبِسَ عليكَ شيءٌ من طُرُقِهم؛ فتتأدبَ بآدابهم وتجتمعَ فيك مُتَفَرِّقَات مناقِبهم.. ولكن اعلمْ أَنَّا لم نُبلِغْ أحدًا مَبْلَغَكَ، ولم يكن لأحدٍ منَّا مالَكَ؛ آتيناك من عندنا شَرَفًا وفخرًا لم يشركك فيهما أحدٌ، وذكَّرناك ما سَلَفَ لَكَ من العهد معنا، وجَدَّدْنا لك بينهم تخصيصنا إياك، وكريمَ إقبالِنا عليك.
قوله جلّ ذكره: {مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القِيَامَةِ وِزْرًا}.
المُعْرضُون عنه شركاءُ يحملون غدًا وزِرًْا وِثقْلًا، أولئك بعُدُوا عن محلِّ الخصوصية، ولم يكن لهم خَطَرٌ في التحقيق؛ فعقوبتُهم لا تزيد على آلام نفوسِِهم وإحراقِ أشباحهم، وأمَّا أهل الخصوصية فلو غفلوا عنه ساعةً ونَسَوْه لحظةً لدَار- في الحال- على رؤوسهم البلاءُ بحيث تتلاشى في جَهنَّم عقوبةُ كلِّ أحدٍ بالإضافة إلى هذه العقوبة. اهـ.

.تفسير الآيات (102- 104):

قوله تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ثم شرح لهم بعض أحوال ذلك اليوم من ابتدائه، فقال مبدلًا من {يوم القيامة}: {يوم ينفخ} أي بعظمتنا- على قراءة أبي عمرو بالنون مبنيًا لفاعل، ودل على تناهي العظمة بطريقة كلام القادرين في قراءة الباقين بالياء مبنيًا للمفعول {في الصور} فيقوم الموتى من القبور {ونحشر} أي بعظمتنا {المجرمين} منهم الذين قطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وعدل عن أن يقول: ونحشرهم- لبيان الوصف الذي جره لهم: الإعراض عن الذكر {يومئذ} أي يوم القيامة، ويكون لهم ما تقدم {زرقًا} أي زرق العيون والجسوم على هيئة من ضرب فتغير جسمه، حال كونهم {يتخافتون}.
ولما كان التخافت- وهو المسارّة بالكلام- قد يكون بين اثنين من قبيلتين، فيكون كل منهما خائفًا من قومه أقل عارًا مما لو كانا من قبيلة واحدة، لأنه يدل على أن ذلك الخوف طبع لازم، قال دالًا على لزومه وعمومه: {بينهم} أي يتكلمون خافضي أصواتهم من الهيبة والجزع.
ولما كانت الزرقة أبغض ألوان العيون إلى العرب لعدم إلفهم لها، والمخافتة أبغض الأصوات إليهم لأنها تدل عندهم على سفول الهمة والجبن وكانوا من الزرقة أشد نفرة لأن المخافتة قد يتعلق بها غرض.
رتبهما سبحانه كذلك، ثم بين ما يتخافتون به فقال: {إن} أي يقول بعضهم لبعض: ما {لبثتم} أي في الدنيا استقصارًا لمدة إقامتهم في غيب ما بدا لهم من المخاوف، أو غلطًا ودهشة {إلا عشرًا} أي عقدًا واحدًا، لم يزد على الآحاد إلا بواحد، وهو لو أنه سنون سن من لم يبلغ الحلم، فكيف إذا كان شهورًا أو أيامًا فلم يعرفوا لذة العيش بأيّ تقدير كان.
ولما كان علم ما يأتي أخفى من علم ما سبق، أتى فيه بمظهر العظمة فقال: {نحن أعلم} من كل أحد {بما يقولون} أي في ذلك اليوم {إذ يقول أمثلهم طريقة} في الدنيا فيما يحسبون، أي أقربهم إلى أن تكون طريقته مثل ما يطلب منه: {إن} أي ما {لبثتم} ودل على أن المعدود المحذوف من الأول الأيام بقوله: {إلا يومًا} أي مبدأ الآحاد، لا مبدأ العقود كما قال في الآية الأخرى {قالوا لبثنا يومًا أو بعض يوم} [المؤمنون: 113] {يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون} [الروم: 55] فلا يزالون في إفك وصرف عن الحق في الدارين، لأن الإنسان يموت على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه، ويجوز أن يكون المراد أن من قال: إن لبثهم يوم واحد، أمثلهم في نفس الأمر، لأن الزمان وإن طال إنما هو يوم متكرر، ليس مرادًا لنفسه، وإنما هو مراد لما يكون فيه فإن كان خيرًا كان صاحبه محمودًا ولم يضره قصره، وإن كان شرًا كان مذمومًا ولم ينفعه طوله، ويجوز أن يكون أنث أولًا إرادة لليالي، لأنها محل الراحة المقصودة بالذات، فكان كأنهم قالوا: لم يكن لنا راحة إلا بزمن يسير جدًا أكثر أول العقود، ونص الأمثل على اليوم الذي يكون الكد فيه للراحة في الليل إشارة إلى أنهم ما كان لهم في اللبث في الدنيا راحة أصلًا، ولم يكن سعيهم إلا نكدًا كله كما يكون السعي في يوم لا ليلة يستراح فيها.
وإن كانت فيه راحة فهي ضمنية لا أصلية. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{يَوْمَ يُنفَخُ في الصور}.
فالمراد بيان أن يوم القيامة هو يوم ينفخ في الصور وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قرأ أبو عمرو ننفخ بفتح النون كقوله: {وَنَحْشُرُ} وقرأ الباقون ينفخ على ما لم يسم فاعله ونحشر بالنون لأن النافخ ملك التقم الصور والحاشر هو الله تعالى، وقرئ يوم ينفخ بالياء المفتوحة على الغيبة والضمير لله تعالى أو لإسرافيل عليه السلام، وأما: يحشر المجرمين فلم يقرأ به إلا الحسن وقرئ في الصور بفتح الواو جمع صورة.
المسألة الثانية:
{فِى الصور} قولان: أحدهما: أنه قرن ينفخ فيه يدعي به الناس إلى المحشر.
والثاني: أنه جمع صورة والنفخ نفخ الروح فيه ويدل عليه قراءة من قرأ: الصور بفتح الواو والأول أولى لقوله تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ في الناقور} [المدثر: 8] والله تعالى يعرف الناس أمور الآخرة بأمثال ما شوهد في الدنيا ومن عادة الناس النفخ في البوق عند الأسفار وفي العساكر.
المسألة الثالثة:
المراد من هذا النفخ هو النفخة الثانية لأن قوله بعد ذلك: {وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ زُرْقًا} كالدلالة على أن النفخ في الصور كالسبب لحشرهم فهو نظير قوله: {يَوْمَ يُنفَخُ في الصور فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} [النبأ: 18]، أما قوله: {وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ زُرْقًا} ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
قالت المعتزلة قوله: {المجرمين} يتناول الكفار والعصاة فيدل على عدم العفو عن العصاة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد بالمجرمين الذين اتخذوا مع الله إلهًا آخر، وقد تقدم هذا الكلام.
المسألة الثانية:
اختلفوا في المراد بالزرقة على وجوه: أحدها: قال الضحاك ومقاتل: يعني زرق العيون سود الوجوه وهي زرقة تتشوه بها خلقتهم والعرب تتشاءم بذلك، فإن قيل: أليس أن الله تعالى أخبر أنهم: يحشرون عميًا فكيف يكون أعمى وأزرق؟ قلنا: لعله يكون أعمى في حال وأزرق في حال.
وثانيها: المراد من الزرقة العمى.
قال الكلبي: زرقًا أي عميًا، قال الزجاج: يخرجون بصراء في أول مرة ويعمون في المحشر.
وسواد العين إذا ذهب تزرق فإن قيل: كيف يكون أعمى، وقد قال تعالى: {إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار} [إبراهيم: 41] وشخوص البصر من الأعمى محال، وقد قال في حقهم: {اقرأ كتابك} [الإسراء: 14] والأعمى كيف يقرأ.
فالجواب: أن أحوالهم قد تختلف.
وثالثها: قال أبو مسلم: المراد بهذه الزرقة شخوص أبصارهم والأزرق شاخص لأنه لضعف بصره يكون محدقًا نحو الشيء يريد أن يتبينه وهذه حال الخائف المتوقع لما يكره وهو كقوله: {إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار} [إبراهيم: 41].
ورابعها: زرقًا عطاشًا هكذا رواه ثعلب عن ابن الأعرابي قال: لأنهم من شدة العطش يتغير سواد عيونهم حتى تزرق ويدل على هذا التفسير قوله تعالى: {وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم: 86].
وخامسها: حكى ثعلب عن ابن الأعرابي قال: طامعين فيما لا ينالونه.
الصفة الثالثة: من صفات الكفار يوم القيامة قوله تعالى: {يتخافتون بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْرًا} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
يتخافتون أي يتسارون.
يقال: خفت يخفت وخافت مخافتة والتخافت السرار وهو نظير قوله تعالى: {فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا} [طه: 108] وإنما يتخافتون لأنه امتلأت صدورهم من الرعب والهول أو لأنهم صاروا بسبب الخوف في نهاية الضعف فلا يطيقون الجهر.
المسألة الثانية:
اختلفوا في أن المراد بقوله: {إِن لَّبِثْتُمْ} اللبث في الدنيا أو في القبر، فقال قوم أرادوا به اللبث في الدنيا، وهذا قول الحسن وقتادة والضحاك، واحتجوا عليه بقوله تعالى: {قال كَمْ لَبِثْتُمْ في الأرض عَدَدَ سِنِينَ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ العادين} [المؤمنون: 112، 113] فإن قيل: إما أن يقال إنهم نسوا قدر لبثهم في الدنيا، أو ما نسوا ذلك، والأول غير جائز إذ لو جاز ذلك لجاز أن يبقى الإنسان خمسين سنة في بلد ثم ينساه.
والثاني: غير جائز لأنه كذب وأهل الآخرة لا يكذبون لاسيما وهذا الكذب لا فائدة فيه قلنا فيه وجوه: أحدها: لعلهم إذا حشروا في أول الأمر وعاينوا تلك الأهوال فلشدة وقعها عليهم ذهلوا عن مقدار عمرهم في الدنيا وما ذكروا إلا القليل فقالوا: ليتنا ما عشنا إلا تلك الأيام القليلة في الدنيا حتى لا نقع في هذه الأهوال، والإنسان عند الهول الشديد قد يذهل عن أظهر الأشياء وتمام تقريره مذكور في سورة الأنعام في قوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23].
وثانيها: أنهم عالمون بمقدار عمرهم في الدنيا إلا أنهم لما قابلوا أعمارهم في الدنيا بأعمار الآخرة وجدوها في نهاية القلة فقال بعضهم: ما لبثنا في الدنيا إلا عشرة أيام وقال أعقلهم: بل ما لبثنا إلا يومًا واحدًا أي قدر لبثنا في الدنيا بالقياس إلى قدر لبثنا في الآخرة كعشرة أيام بل كاليوم الواحد بل كالعدم، وإنما خص العشرة والواحد بالذكر لأن القليل في أمثال هذه المواضع لا يعبر عنه إلا بالعشرة والواحد.
وثالثها: أنهم لما عاينوا الشدائد تذكروا أيام النعمة والسرور وتأسفوا عليها فوصفوها بالقصر لأن أيام السرور قصار.
ورابعها: أن أيام الدنيا قد انقضت وأيام الآخرة مستقبلة والذاهب وإن طالت مدته قليل بالقياس إلى الآتي وإن قصرت مدته فكيف والأمر بالعكس ولهذه الوجوه رجح الله تعالى قول من بالغ في التقليل فقال: {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْمًا}.
القول الثاني: أن المراد منه اللبث في القبر ويعضده قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ} [الروم: 55] وقال: {الذين أُوتُواْ العلم والإيمان لَقَدْ لَبِثْتُمْ في كتاب الله إلى يَوْمِ البعث} [الروم: 56] فأما من جوز الكذب على أهل القيامة فلا إشكال له في الآية، أما من لم يجوز، قال: إن الله تعالى لما أحياهم في القبر وعذبهم ثم أماتهم ثم بعثهم يوم القيامة لم يعرفوا أن قدر لبثهم في القبر كم كان، فخطر ببال بعضهم أنه في تقدير عشرة أيام، وقال آخرون: إنه يوم واحد، فلما وقعوا في العذاب مرة أخرى، تمنوا زمان الموت الذي هو زمان الخلاص لما نالهم من هول العذاب.
المسألة الثالثة:
الأكثرون على أن قوله: {إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْرًا} أي عشرة أيام، فيكون قول من قال: {إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْمًا} أقل وقال مقاتل: {إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْرًا} أي عشر ساعات كقوله: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضحاها} [النازعات: 46] وعلى هذا التقدير يكون اليوم أكثر، والله أعلم واعلم أنه سبحانه وتعالى بين بهذا القول أعظم ما نالهم من الحيرة التي دفعوا عندها إلى هذا الجنس من التخافت. اهـ.